إن الدعوة للحفاظ على خصوصيتنا الثقافية، أمر في غاية الأهمية، خاصة بعد أن كثرت المخاطر التي تواجه أمتنا العربية والإسلامية وتهدد ثقافتنا وهويتنا الوطنية؛ وأهمها الهجمة الشرسة ضد الإسلام واللغة العربية وحالة التغريب السائدة في ظل العولمة، وتأثير ثقافة العدد الهائل من الأجانب، والتغيرات السريعة في كثير من جوانب الحياة الاجتماعية والثقافية... لذلك يجب أن نتحدث صراحة وندق ناقوس الخطر. تلك المخاطر وتأثيراتها الحادة، لعبت دوراً كبيراً في إضعاف الجسد الثقافي، فقد جعلته يعاني من حالة ضعف في أسلوب المقاومة، كما تسببت في اختفاء العديد من القيم والملامح الثقافية والاجتماعية الأساسية في المجتمع. فهناك اليوم تغليب لاتجاه التغريب، لاسيما في مجال التعليم والثقافة، ومن دلائل ذلك هيمنة الفكر المستورد واللغة الأجنبية في مؤسسات التعليم والعمل. إلى جانب التدهور الذي أصاب مفاهيم الانتماء الوطني، لاسيما بعد ضمور التعليم الوطني كوسيلة أساسية لدعم الهوية الوطنية وترسيخ الانتماء الوطني. ونضيف الى تلك المظاهر والأسباب معاً؛ ضعف الاهتمام بالثقافة الجادة، أي التركيز على المواد والموضوعات الثقافية السطحية، سواء في القنوات الفضائية أو الصحف والمجلات، حيث تتوقف الثقافة عند حدود الترفيه والإمتاع الفني والتسلية والإغراء. ومن جراء ذلك نلاحظ تآكل بعض القيم والعادات والتقاليد بشكل أسرع من السابق، والشاهد فيه هو قلة الاحتشام وزيادة السفور، وظهور سلوكيات مشبوهة بين الجنسين لتصبح مألوفة في الشارع. وكذلك زيادة حالة الفردية والانعزال وتخلي العديد من أبناء الجيل الجديد عن كثير من ثوابته وقيمه. أضف إلى ذلك، الميل المتزايد في تغليب المفاهيم والاتجاهات والنماذج التي تتصل بالسلوك الغربي في المأكل والملبس والمسكن والمظهر والشكل والعمران. وبجانب هذا الخلل، هناك اشكالية يجب أن نعترف بها، وتتعلق بجانب من موروثنا لعب دوراً مؤثراً في تخلفنا، إذ نعاني أساساً من حالة تخلف تعود إلى عصور التراجع الحضاري، ولم نعالج هذا التخلف بصورة دقيقة وبوعي تام ومتقن. الغرب يمنحنا التكنولوجيا لكنه لا يمكننا من صناعتها بل أيضاً يحجب عنا أسرارها. ونستشهد هنا بما قاله أحد رؤساء ومالكي إحدى الشركات الإماراتية الرائدة الكبرى من أن "الأسلحة المتقدمة جداً محظورة بالمطلق على الدول العربية". وحسب استنتاج الدكتور محمد عمارة فإن هذه الهيمنة الغربية "تحرس أمراضنا وتحرس تخلفنا" ولا تريد لنا الشفاء. ومما يزيد الأمر حدة أن بعض المثقفين والكتّاب العرب يعملون ليل نهار للدفاع عن المشروع التغريبي، فيخلقون له الأسباب والمداخل والحجج المضللة، يجملون صورته على حساب الوطن والأمة والدين واللغة، ويسهلون له فرض هيمنته. وليت الأمر يتوقف عند ذلك، بل إن انتقل إلى مرحلة أخرى، وهي تخويف الرأي العام من فئة المثقفين والكتّاب أصحاب الثوابت الذين يحرصون على الوطن والأمة والدين واللغة... فيشككون في كتاباتهم بكلمات غاية في السطحية والجهل ليس لها قيمة أو معيار علمي. نحن هنا لا ندعو للانغلاق على الذات ولا نهون من أهمية المشروع الحضاري الثقافي العلمي الغربي، لكننا فقط نتحدث عن خطورة هيمنته التي وصلت إلى درجة "العنف الثقافي". ليس هناك مشكلة في أن نأخذ منه عناصر القوة شريطة أن يكون ذلك مع مراعاة خصوصيتنا العربية والإسلامية بحيث لا نجعله سلاحاً مضاداً لتذويب ثقافتنا. إن تحركنا نحو النهضة والتطور والتقدم والتوسع التنموي والإثراء الفكري والانفتاح على الآخر، لا يجب أن ينسينا من نحن، وبماذا نتميز، وما هي حضارتنا؟ وبماذا نختلف عن الآخر؟ وما الثوابت والمتغيرات في خصوصيتنا الاجتماعية والثقافية التي يجب أن ننطلق منها؟ لعلنا نحتاج إلى دراسات ومراكز قومية متخصصة تقيس لنا قوة مساحة اقتحام النموذج التغريبي في ثقافتنا المعاصرة، وفي عمليات التحول الاجتماعي والثقافي والاقتصادي التي تتحرك في مجتمعنا، الآن نحتاج إلى فهم الأدمغة التي تخطط لثقافتنا المستقبلية، نحتاج إلى مشروع واضح للنهضة العربية القادمة.